فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا}
في معنى هذا السجود قولان: أحدهما أن المراد منه السجود على الحقيقة وهو وضع الجبهة على الأرض، ثم على هذا القول ففي معنى الآية وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عامًا إلا أن المراد منه الخصوص، فقوله: {ولله يسجد من في السموات} يعني الملائكة {ومن في الأرض} من الإنس يعني المؤمنين {طوعًا وكرهًا}، يعني من المؤمنين من يسجد لله طوعًا وهم المؤمنون المخلصون لله العبادة، وكرهًا يعني المنافقين الداخلين في المؤمنين وليسوا منهم فإن سجودهم لله على كره منهم، لأنهم لا يرجون على سجودهم ثوابًا ولا يخافون على تركه عقابًا بل سجودهم وعبادتهم خوف من المؤمنين.
الوجه الثاني: هو حمل اللفظ على العموم، وعلى هذا ففي اللفظ إشكال، وهو أن جميع الملائكة والمؤمنين من الجن والإنس يسجدون لله طوعًا، ومنهم من يسجد كرهًا كما تقدم وأما الكفار من الجن والإنس، فلا يسجدون لله البتة فهذا وجه الإشكال.
والجواب عنه أن المعنى أنه يجب على كل من في السموات ومن في الأرض أن يسجد لله، فعبر بالوجوب عن الوقوع والحصول.
وجواب آخر وهو أن يكون المراد من هذا السجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية، وكل من في السموات من ملك ومن في الأرض من إنس وجن، فإنهم يقرون لله بالعبودية والتعظيم ويدل عليه قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} والقول الثاني: في معنى هذا السجود هو الانقياد والخضوع وترك الامتناع فكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى، وهذا الاعتبار لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل فهم خاضعون منقادون له.
وقوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والآصال} الغدوة والغداة أو النهار، وقيل: إلى نصف النهار والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصل، وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
قال المفسرون: إن ظل كل شخص يسجد لله ظل المؤمن والكافر.
وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعًا وهو طائع وظل الكافر يسجد لله كرهًا، وهو كاره.
وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله.
قال ابن الأنباري: ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولًا وأفهامًا تسجد بها وتخشع كما جعل للجبال أفهامًا حتى سبحت لله مع داود، وقيل: المراد بسجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب آخر، وطولها وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ونزولها، وإنما خص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال تعظم، وتكثر في هذين الوقتين، وقيل: لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما.
فصل:
وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}
إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة: وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع، فيكون عامًا مخصوصًا إذ يخرج منه من لا يسجد، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة: فيسجد كرهًا وإما نفاقًا، أو يكون الكره أول حاله، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد.
وقيل: طوعًا لا يثقل عليه السجود، وكرهًا يثقل عليه، لأنّ إلزام التكاليف مشقة.
وقيل: من طالت مدة إسلامه، فألف السجود.
وكرهًا من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري.
وقيل: هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر، ومدلوله أثر.
أو يكون معناه: يجب أن يسجد له كل من في السموات والأرض، فعبر عن الوجوب بالوقوع.
والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية إنما هو أنّ العالم كله مقهور لله تعالى، خاضع لما أراد منه، مقصور على مشيئته، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى.
فالذين تعبدونهم كائنًا ما كانوا داخلون تحت القهر، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود.
والظلال ليست أشخاصًا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد، إذ هي من العالم.
فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدًا لله} وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف، وأضعف منه قول ابن الأنباري: إنه تعالى جعل للظلال عقولًا تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهامًا حتى خاطبت وخوطبت، لأنّ الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى.
وقال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وطوله بسبب انحطاط الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب.
وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما، وتقدم شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف.
روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد لله حينئذ.
وقرأ أبو مجلز: والإيصال.
قال ابن جني: هو مصدر أصل أي: دخل في الأصيل كما تقول: أصبح أي دخل في الإصباح. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَللَّهِ} وحده: {يَسْجُدُ} يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالًا ولا اشتراكًا فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد: {مَن في السموات والأرض} من الملائكة والثقلين: {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين وكارهين وانقيادَ طوعٍ وكُرهٍ، أو حالَ طوعٍ وكره، فإن خضوعَ الكلّ لعظمة الله عز وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا، وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد: {وظلالهم} أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال: {بالغدو والأصال} ظرفٌ للسجود المقدّر أو حالٌ من الظلال، وتخصيصُ الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما، والغدو جمع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل، وقيل: جمع أُصُل وهو جمعُ أصيل، وهو ما بين العصر والمغربِ، وقيل: الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرئ {والإيصالِ} أي الدخول في الأصيل. هذا وقد قيل إن المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {وَكَرْهًا} يخُصّون السجودَ به سبحانه، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ في الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} ولا يبعُد أن يخلُق الله تعالى في الظلال أفهامًا وعقولًا بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري، ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعًا لأصحابها، وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالةَ الرخاء مُخِلُّ بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد، ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى، وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضًا كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل: {قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15)}
{وَللَّهِ} وحده: {يَسْجُدُ} يخضع وينقاد لا لشيء غيره سبحانه استقلالًا ولا اشتراكًا، فالقصر ينتظم القلب والإفراد: {مَن في السموات والأرض} من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن، وتخصيص انقياد العقلاء مع كون غيرهم أيضًا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أن فيما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانًا لذلك، وقيل: المراد ما يشمل أولئك وغيرهم، والتعبير بمن للتغليب: {طَوْعًا وَكَرْهًا} نصب على الحال، فإن قلنا بوقوع المصدر حالًا من غير تأويل فهو ظاهر وإلا فهو بتأويل طائعين وكارهين أي أنهم خاضعون لعظمته تعالى منقادون لإحداث ما أراد سبحانه فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاؤوا أو أبوا من غير مداخلة حكم غيره جل وعلا بل غير حكمه تعالى في شيء من ذلك.
وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الإكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناءً على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره، وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الإباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة ما يحمل على الفعل أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضًا له وقد مر عن قرب فتذكره، وقيل: النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره: {وظلالهم} أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الإنس فقط أو ما يعمهم وكل كثيف.
وفي الحواشي الشهابية ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوز، ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفئ والزوال، وأصل الظل كما قال الفراء مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وهو إما معكوس أو مستو ويبني على كل منهما أحكام ذكروها في محلها: {بالغدو والاصال} ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير، والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد، قيل: فلا يقال لم خص بالذكر؟ وكذا يقال: إذا كانا في موضع الحال من الظلال، وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر.
والغدو جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب، وقيل: هو جمع أصل جمع أصيل، وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفًا، وقيل: الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز: {الإيصال} بكسر الهمة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الأصيل كما قاله ابن جني هذا، وقيل: إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى: {طَوْعًا وَكَرْهًا} يخصون السجود به سبحانه قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ في الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهامًا وعقولًا بها تسجد لله تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري، وجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعًا لأصحابها، وهذا على ما قيل: مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع للظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن إرادة ما ذكر لا يضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى ما في بعض الشقوق من النظر.
وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فيسجد كرهًا إما نفاقًا أو يكون الكره أول حالة فيستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد، وقيل: الساجد طوعًا من لا يثقل عليه السجود والساجد كرهًا من يثقل عليه ذلك.
وعن ابن الأنباري الأول من طالت مدة إسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالإسلام إلى أن يألف، وأيًا ما كان فمن عام أريد به مخصوص إذ يخرج من ذلك من لا يسجد، وقيل: هو عام لسائر أنواع العقلاء والمراد بيسجد يجب أن يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة.
واختار غير واحد في تفسير الآية ما ذكرناه أولًا، ففي البحر والذي يظهر أن مساق الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائنًا ما كانوا داخلون تحت القهر لا يستطيعون نفعًا ولا ضرًا، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصًا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت قهر إرادته تعالى كما قال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شيء يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمائل سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] وكون المراد بالظلال الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ما قاله ابن الأنباري، وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب إلى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى.
وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولًا وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة لله تعالى لا يجدي فإن سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام له تعالى ادخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اهـ؛ وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير. اهـ.